كان علماء الطب في القرن الثامن عشر يعتمدون حقيقة واحدة في شأن مرض السل، وهي أن كل مولود بالسل قطعا سيموت، حتى أعلن معهد "باستور" عن لقاحه المضاد الذي أحدث ثورة، وغيّر المفهوم القديم- نبوءة علمية هزمت الاعتقاد الراسخ، وغيرت تاريخ علاج أحد أخطر الأمراض.
لا تنتظر المطر
ما علاقة السل بالإعلام؟ لا يوجد اختلاف كبير؛ فكل مولود في الإعلام بصورته الحالية قطعا سيفشل، ويموت، فهناك مرض، واللقاح يجري تجاهله، ولهذا فلا جديد سيحدث، ولا تطوير سيستقر، ولا تأثير سينتج. لا تنتظر المطر من السماء في صحراء قاحلة؛ فلن تحصد وأنت تدير بالمصادفة، ولا تلتزم بالعلم ونظريات الإعلام واعتماد المعايير في السياسات أو الأشخاص.
كل قرار بشأن الإعلام مجرد إعلان وفاة جديدة! كل إجراء يتعامل مع العَرَض وليس المرض ستذروه الرياح! القدر لن يخلق تغييرا دون الاشتباك مع الأسباب. الإعلام يحتاج "باستور" آخر ليس شخصا بل فلسفة، تبدأ بتشخيص الحالة ثم وضع خطة عملية واقعية موضوعية تعكس المخرج من نفق الضبابية.
الحالة تقول إن المرض كان كامنا، وأصبح في السنوات الأخيرة نشطا، لم يكتفِ بالرئتين، بل وصل إلى الكليتين والحبل الشوكي، ودمر جزءًا كبيرا من الدماغ، والإنقاذ يبدأ من الدماغ.
الجماهير يجب أن تعرف أم لا؟
سيطرت نظرية "السلطة" ومسحة الشمولية على الإعلام؛ ما أضر بالجسد الإعلامي ووطن مرضه، ففي الأولى: تسيطر بشكل كامل كما يحظر النقد، وتسعى للتمجيد والتغني بالإنجازات.
وفى الثانية: الجماهير يجب ألا تعرف شيئا، ويجب على وسائل الإعلام ألا تبحث عن الحقيقة؛ فهي في النهاية أداة حكومية".
جرى بكل وضوح صناعة مزيج من هاتين النظريتين، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه، المزيج قيّد طاقات الإبداع، وقتل المبادرات وأنهى معيار الكفاءة والجدارة، وأصبحت المنتجات الإعلامية واحدة لا يمكن التفرقة بينها، سواء من حيث المضمون أو حتى الشكل.
القاعدة بالطبع كان فيها استثناءات حتى لا نبخس جهد زملاء محترمين.
الترويج الحالي لنظرية الإعلام التنموي بوصفها المخرج من أزمة الإعلام ليس سوى مسكنات لن يحتملها جسد الإعلام الواهن، وستكون الضربة القاضية لما تبقى منه.
ففي الإعلام التنموي الذي يعني استخدام منافذ الاتصال لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، هناك وظيفة أولية يجب القيام بها، وهي الرقابة على خطط التنمية نفسها، فتعزيز الثقة بالسياسات الحكومية لن يأتي بتجنب السلبي من الأمور، بل بإقرار حقيقة الواقع: نقل الواقع كما هو دون تزيين أو تجميل أو طلاء.
هل المعرفة تخدم السلطة؟
الإعلام هو الإعلام، "ميشيل فوكو" يقول إن المعرفة تخدم السلطة، وهكذا يثبت تاريخ المعرفة عبر العصور، ولهذا فإن منعها لن يخدم أي سلطة بالضرورة.
في الإعلام الأصل هو المعرفة "تزويد الناس بأكبر قدر ممكن من المعلومات الصحيحة والحقائق الواضحة التي يمكن التثبت من صحتها أو دقتها".
الإعلام يحتاج أن يصبح إعلامًا أولا، ولو كان الوزير جزءًا من الحل؛ فأهلا بأي إجراء يأتي بالمخرج، لكنه ليس الحل بمفرده؛ في ظل ضبابية وميراث سلبي عن الإعلام ولدى الإعلام، سواء تصور السلطة السياسية وسلطة المجتمع عنه والعكس.
اتركوا الإعلام للإعلام دون وصاية، ففي التنوع إقصاءٌ للفاسد من المنتجات، والقانون حاكم، قانون لا يفرق بين كيان وآخر.
والممارسة تنضبط بلائحة حقيقية، ظاهرها مثل باطنها، تجمع بين الحرية والمسؤولية، ليست عقابية، بل موضوعية منصفة.