التنقيب عن الآثار عالم مليء بالتفاصيل، مغامرات وأساطير غير منطقية، وفي عالم الحفر خلسة هناك من يبحثون عن الثراء السريع غير المشروع دون أن يدركون أنهم قد يحفرون قبورهم بأيديهم..
نيابة منيا القمح - الشرقية
2017..
خرج رجب من مكتب وكيل النيابة يتصبب عرقًا، تضاعفت العلامات التي تركها الزمن على وجهه، وهو يتوسل إليه كي يساعده على استخراج شهادة وفاة ابنه، جاء رد وكيل النيابة كقذيفة مدوية "مفيش جثة يبقى مفيش شهادة وفاة".. لم يتحمل الرجل الستينى الصدمة، ومات بعد دقائق.
مأساة رجب وابنه متشابكة وأحداثها لم تنته بعد، بدأت صباح شم النسيم في العام ذاته، حينما حضر غريب يدعى "محمد نبيل"، واصطحب نجله محمد، من منزله المتواضع فى كفر العلو بحلوان إلى محافظة الشرقية، كي يقضون عطلتهم في منزل أهل الزوجة.
مر أسبوع قبل أن يدق الهاتف بمنزل والده، وأخبرته زوجة محمد بصوتٍ باكٍ، أنه تشاجر مع أحدهم ومات. انطلق رجب مع أسرته على الفور نحو الشرقية، وقبل أن يصل، طلبت منه زوجة الابن أن يتوجه نحو نيابة منيا القمح، وهناك اكتشف حقيقة مغايرة، أخبره رئيس المباحث أنه كان ينقب عن الآثار تحت أحد المنازل، فانهالت عليه حفرة، ولم يتم استخراج جثته بعد.
محمد، واحد من بين عدد كبير من عمال اليومية الذين يحفرون خلسة بحثًا عن الآثار، أملا في الثراء السريع غير المشروع، دون إدراك أنهم قد يحفرون قبورهم بأيديهم.
"يعاقب بالسجن المشدد كل من قام بالحفر خلسة أو بإخفاء الأثر أو جزء منه بقصد التهريب، ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأثر والأجهزة والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة في الجريمة لصالح المجلس الأعلى للآثار".
لا يوجد حصر رسمي لجرائم الآثار في مصر، لكن مركز دفتر أحوال وهو منظمة مجتمع مدني متخصصة في البحث والأرشفة أعدت دراسة كاملة حول جرائم الآثار في مصر عام 2016.
جرائم التنقيب عن الآثار عام 2016
102
القطع الأثرية المضبوطة
764
المقبوض عليهم
19
الإصابات
38
الوفيات
114
الوقائع
كرديدة - الشرقية
22 أبريل 2017..
افترش أفراد عائلة "محمد" أرض القرية، ينتظرون صدور قرار النيابة بإعادة الحفر لاستخراج جثته. التفوا حول منزل متهالك من طابق واحد يقع في مواجهة دار الضيافة بالقرية، بداخله حفرة لا يتعدى عرضها متر واحد، على عمق 6 أمتار، ينحدر منها نفق عرضي تحت الأرض بطول مترين في جهة اليمين،انهال على جسد محمد، وفقا لبيان وزارة الداخلية.
في صباح اليوم التالي، صدر قرار الحفر، أُزيل المنزل محل التنقيب، وجاء رجال الحماية المدنية لمعاينة الموقع، وجاءت النتيجة.. "سيكون الحفر يدويًا، حرصًا على المباني المجاورة". فالوضع لم يكن مطمئنا للمختصين، فالمنزل المهدم على يمينه منزل من الطوب الأحمر يتكون من ثلاثة طوابق، وعلى يساره وخلفه منزلين صغيرين من الطوب اللبن.
بدأ الحفر بعد 4 أيام على نفقة العائلة، تنفعل الأم قائلة: "كان عندنا استعداد نبيع شعر راسنا عشان نلقى ابننا حي أو ميت"، لكن هذا لم يكن كافيًا.
على عمق 5 أمتار ظهرت المياه الجوفية، فاضطرت النيابة لوقف الحفر، حرصًا على حياة العمال، والمباني المجاورة، ودُفنت آمال العائلة باستخراج جثمان محمد أو حتى شهادة وفاته، تحت حطام المنزل، ودُفن سره معه.. وتوفي والده من بعده حسرة عليه.
"يحكم بموت المفقود الذي يغلب عليه الهلاك بعد أربع سنوات من تاريخ فقده. بحكم القاضي، وذلك بعد التحري عنه بجميع الطرق الممكنة الموصلة الى معرفة إن كان المفقود حيًا أو ميتًا"
ا من قانون الأحوال الشخصية
"ساعات بيكون فيه دكتور وساعات لأ.. بس لازم صاحب البيت يجيب الشيخ والعمال"
عم ربيع.. (منقب)
الشرقية..
نهاية 2018
كنا على موعد مع ربيع، على أحد مقاهي محافظة الشرقية، في ليلة شتوية قاسية، كان عامل المحارة الخمسيني، انخرط في عالم الحفر خلسة بهدف التنقيب عن الآثار في الـ 5 سنوات الأخيرة، وقرر بعد تردد أن يبوح لنا بأسراره.
الحفر خلسة
شيخ
يُسخر خدمة من الجن لمعرفة أماكن الآثار، وفتحها
صاحب البيت
يتكفل بكافة مصاريف الحفر
حفارون
من 2 لـ3 رجال، يحفرون وينقبون، ويزيلون الرمال، ويبنون الجدران الخرسانية داخل وأعلى موقع الحفر والتي يسمونها(الخنزيرة)
أكاديمي
يحدد ما إذا كانت التربة أثرية، وكيفية التعامل معها
"الناس في بلادنا مهووسة بالآثار.. فبييجي شيخ يقول إنه يعرف أماكنها تحت الأرض، والناس طبعا بتصدقه وتبدأ تتعامل"، هكذا تبدأ الحكاية، وفقًا لعم ربيع، فهناك من يبدأ بالحفر فورًا في أرضه أو تحت داره، وهناك من يستعين بـ أكاديميين، أثريين وجولوجيين، للتأكد مما إذا كانت الأرض بها شواهد أثرية أم لا.
وقبل بدء الحفر، يتم الاتفاق.. لكل من الشيخ والأكاديمي، أجره في جميع الأحوال، ونسبة تقارب النصف ما إذا وصلوا إلى آثار بالفعل، وفقًا لرواية ربيع.
أما الحفارون أمثاله، يعملون بأجرة، 150 جنيها في اليوم، أو 200 جنيه مقابل كل متر، "ولو حاجة طلعت بيبقى لينا نصيب بسيط ميزيدش عن 1000 جنيه".. يقول ربيع.
قبل عام ونصف، كاد ربيع أن يكون أحد ضحايا التنقيب. لف جسده الذي نخرته الرياح الباردة على كرسي المقهى المصنوع من الخوص قبل أن يحكي: "كنا في مكان على عمق 6 أمتار، وعملنا نفق أفقي تحت الأرض، فقابلنا 3 طبقات رمل عرضها 30 سم، بين الطبقة والطبقة.. طبقة طين حوالي 5 سم".
كانت الأجواء شتوية باردة، تفوق برودة المقهى، والرمال بيضاء خشنة، مثل حبات السكر، بالكاد كان ربيع ومرافقه يرون كف أيديهم من كثافة بخار الماء الخارج من أفواههم ما صعب من عملية التنفس.
حاول الأكاديمي حل الأزمة، جلب مروحة كهربائية، مغطاة بكيس بلاستيكي، بداخله خرطوم، انسدل داخل الحفرة، لينقل الهواء إليهم، لكنه تسبب في مشكلة أخرى.
تشققت طبقات الطين، وانهالت رمال النفق العرضي فوق رأسي ربيع وزميله. وقتها، كان ربيع يستريح جالسًا في بداية النفق، فصعد مسرعًا وهرب، وتمكن صاحب البيت، من إنقاذ زميله فيما بعد، وبعد يومين سقط البيت.
كانت هذه هي المرة الأخيرة من 5 مرات، عمل فيها ربيع في التنقيب عن الآثار، قرر حينها التوقف عن هذا العمل، أما الآن فقراره تغير، "قلة الشغل وكتر المصاريف تخلينا نقبل رغم الأجر القليل والخطورة".